Cougar
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


العاب/افلام/برامج
 
المجلهالمجله  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 افتراضي في ظـلال القـُرآن...سَــيّد قطـْب.

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المدير العام
المدير العام
المدير العام
المدير العام


عدد المساهمات : 635
تاريخ التسجيل : 05/01/2012
العمر : 29
الموقع : https://cougar.hooxs.com

افتراضي في ظـلال القـُرآن...سَــيّد قطـْب.  Empty
مُساهمةموضوع: افتراضي في ظـلال القـُرآن...سَــيّد قطـْب.    افتراضي في ظـلال القـُرآن...سَــيّد قطـْب.  Icon_minitime1الخميس فبراير 23, 2012 9:15 pm

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف بسورة البقرة

1 - نزول السور وترتيبها التوقيفي

هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على
الإطلاق . والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول
آيات من سور أخرى ; فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور
المدنية الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت - تفيد أن السور
المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية ; إنما كان يحدث أن تنزل آيات
من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها ; وأن المعول عليه في
ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها - لا جميعها - وفي هذه
السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا , في حين أن الراجح أن
مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة .

فأما تجميع آيات كل سورة في السورة , وترتيت هذه الآيات , فهو توقيفي موحى
به . . روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:قلت
لعثمان بن عفان:ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة
وهي من المئين , وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر:بسم الله الرحمن الرحيم ,
ووضعتموها في السبع الطوال ? وما حملكم على ذلك ? فقال عثمان:كان رسول الله
[ ص ] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ; فكان
إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب , فيقول:" ضعوا هذه الآية في
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ,
وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ; وكانت قصتها شبيهة بقصتها , وخشيت
أنها منها ; وقبض رسول الله [ ص ] ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك
قرنت بينهما , ولم أكتب بينهما سطر:بسم الله الرحمن الرحيم , ووضعتها في
السبع الطوال .

فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ ص
] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ ص ] أجود
الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل
عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ ص ]
القرآن , وفي رواية فيدارسه القرآن , فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود
بالخير من الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله [ ص ] وقد قرأ القرآن
كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه . . ومعنى هذا
أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره .

ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة !
شخصية لها روحيعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح
والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى
محور خاص . ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ; ويجعل سياقها يتناول هذه
الموضوعات من جوانب معينة , تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع
موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة .
. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور
كهذه السورة .

2 :ملابسات نزول سورة البقرة:وبدايات الهجرة

هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد
مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من ناحية تدور حول
موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة , واستقبالهم لها ,
ومواجهتهم لرسولها [ ص ] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر
ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من
جهة , وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من الناحية الأخرى تدور
حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها ; وإعدادها لحمل أمانة الدعوة
والخلافة في الأرض , بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ,
ونقضهم لعهد الله بخصوصها , وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم -
عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى , وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من
العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل موضوعات
السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين , كما سيجيء في
استعراضها التفصيلي .

ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة , وبين خط سير
الدعوة أول العهد بالمدينة , وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة
الأخرى . . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات
السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في
عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع
اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ; من أعدائها وأوليائها على السواء
. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ; ويبث في
هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ; ويرفعها معالم للطريق أمام
الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق , بين العداوات المتعددة
المظاهر المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه
السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني .

لقد تمت هجرة الرسول [ ص ] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت
تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ; وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في
الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان موقف قريش العنيد من
الدعوة في مكة - وبخاصة بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - وموت أبي طالب
كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في
مكة وما حولها . ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع
الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما
حولها , بموقف قريش منها , وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل , مما جعل بقية
العرب تقف موقف التحرز والانتظار , في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول
وعشيرته الأقربين , وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب
وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة . وما كان هناك ما يشجع
العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير , على الدخول في
عقيدةرجل تقف منه عشيرته هذا الموقف . وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم
بسدانة الكعبة , وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة !

ومن ثم كان بحث الرسول [ ص ] عن قاعدة أخرى غير مكة , قاعدة تحمي هذه
العقيدة وتكفل لها الحرية , ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي
انتهت إليه في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من
الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .

ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب , لتكون قاعدة للدعوة الجديدة , عدة اتجاهات . .
سبقها الاتجاه إلى الحبشة , حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل .
والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية .
فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين .
غير أن الأمر كان على الضد من هذا , فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب
عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو
عصبيات , لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى , ويحميهم
من الفتنة ; وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين , منهم جعفر بن أبي
طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ ص ] ومنهم
الزبير بن العوام , وعبد الرحمن ابن عوف , وأبو سلمة المخزومي , وعثمان بن
عفان الأموي . . . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان
الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة
في أوساط البيوت الكبيرة في قريش ; وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون
بعقيدتهم , فرارا من الجاهلية , تاركين وراءهم كل وشائج القربى , في بيئة
قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا ; وبخاصة حين يكون من بين
المهاجرين مثل أم حبيبة , بنت أبي سفيان , زعيم الجاهلية , وأكبر المتصدين
لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن
تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة , أو
آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما
ورد عن إسلام نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا
إلا ثورة البطارقة عليه , كما ورد في روايات صحيحة .

كذلك يبدو اتجاه الرسول [ ص ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو
آمنة على الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف
استقبلوا رسول الله [ ص ] أسوأ استقبال , وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم
يرجمونه بالحجارة , حتى أدموا قدميه الشريفتين , ولم يتركوه حتى آوى إلى
حائط [ أي حديقة ] لعتبة وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك
الدعاء الخالص العميق:" اللهم أشكو إليك ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني
على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ?
إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ? إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .
ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات , وصلح عليه
أمر الدنيا والآخرة , أن تنزل بي غضبك , أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى
ترضى , ولا حول ولا قوة إلا بك " .

بعد ذلك فتح الله على الرسول [ ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب , فكانت
بيعة العقبة الأولى , ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية
بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة , وبالملابسات التي وجدت حول
الدعوة في المدينة .

وقصة ذلك في اختصار:أن النبي [ ص ] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين
بجماعة من الخزرج في موسم الحج , حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين
للحج ; ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من العرب -
الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود المقيمين معهم , أن هنالك نبيا قد أطل
زمانه ; وكانت يهود تستفتح به على العرب , أي تطلب أن يفتح لهم على يديه ,
وأن يكون معهم على كل من عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ ص ] قال
بعضهم لبعض:تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود , فلا تسبقنكم إليه
. . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له:إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من
العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم
, وعرضوا الأمر عليهم , ارتاحوا له , ووافقوا عليه .

فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج , فالتقوا
بالنبي [ ص ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم

وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك , فطلبوا أن
يبايعوه , وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ ص ] على أن يمنعوه مما
يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى
. . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي:قال
عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة
العقبة:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا ; واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " .
قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . قالوا:ربح البيع ولا نقيل ولا
نستقبل !

وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة , حتى لم يبق
فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة
تباعا , تاركين وراءهم كل شيء , ناجين بعقيدتهم وحدها , حيث لقوا من
إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , من الإيثار والإخاء ما لم
تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجر رسول الله [ ص ] وصاحبه الصديق .
هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . .
وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ ص ]
.

3: الخط الأول في السورة:كشف عداوة اليهود للدعوة الإسلامية وهو إلى نهاية الجزء الأول

من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين
نوه القرآن بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات
الإيمان , وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف ذلك
الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك: الم ذلك الكتاب لا ريب
فيه , هدى للمتقين , الذين يؤمنون بالغيب , ويقيمون الصلاة , ومما رزقناهم
ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وبالآخرة هم
يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . .

ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ; وهو يمثل مقومات الكفر على
الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ,
سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار:*إن الذين كفروا
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم , وعلى أبصارهم غشاوة , ولهم عذاب عظيم*. .

كذلك كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع
التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها , والتي
أشرنا إليها من قبل ; ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له
دولة ولم تكن له قوة , بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها . على
الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا , وكانت الدعوة مطاردة , وكان الذين
يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم , الذين
يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء . فأما في يثرب التي أصبحت
منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة
يحسب حسابها كل أحد ; ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة
بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا
لمصانعتها نفر من الكبراء , دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا
بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا
باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن
سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام
على المدينة . .

وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين , ندرك من بعض فقراته أن
المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ,
ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس , وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء
على طريقة العلية المتكبرين !: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر
وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا , وما يخدعون إلا أنفسهم وما
يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ; ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون . وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا
إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس
قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ? ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا
لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا , وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم إنما
نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين
اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم , وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل
الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم , وتركهم في ظلمات لا
يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد
وبرق , يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت , والله محيط
بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه , وإذا أظلم
عليهم قاموا , ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم , إن الله على كل شيء
قدير . .

وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة
إلى*شياطينهم*. والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها
تعني اليهود , الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما قصتهم
مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة:

لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ; وكان لهذا الاصطدام
أسبابه الكثيرة . . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين
الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا
لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء , إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم
بسبب ما لديهم من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس
والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا !
- فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . . فلقد جاء بكتاب مصدق
لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا
ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم , ووحد الصف الإسلامي الذي ضم
الأوس والخزرج , وقد أصبحوا منذ اليوميعرفون بالأنصار , إلى المهاجرين ,
وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له
البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق .

ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار , وأن فيهم الرسالة والكتاب .
فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن
جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته , وأن يقصر الدعوة
على الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب الله ,
بحكم أنهم أعرف به من المشركين , وأجدر بالاستجابة له من المشركين . .
أخذتهم العزة بالإثم , وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !

ثم إنهم حسدوا النبي [ ص ] حسدا شديدا . حسدوه مرتين:مرة لأن الله اختاره
وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من
نجاح سريع شامل في محيط المدينة .

على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم
منذ الأيام الأولى:ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي
كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا
أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران -
في تقديرهم - أحلاهما مر !

لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة
, [ وسور غيرها كثيرة ] في تفصيل دقيق , نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير
إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم:*يا بني
إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي
فارهبون . وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا تكونوا أول كافر به , ولا
تشتروا بآياتي ثمنا قليلا , وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل
وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع
الراكعين . أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ? وأنتم تتلون الكتاب ? أفلا
تعقلون ?*. . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام -
وجحودهم لنعم الله عليهم , وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد
الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم:*أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه
وهم يعلمون ? وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا , وإذا خلا بعضهم إلى بعض
قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ? أفلا تعقلون
?*. .*وقالوا:لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل:أتخذتم عند الله عهدا
فلن يخلف الله عهده ? أم تقولون على الله ما لا تعلمون ?*. .*ولما جاءهم
كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به , فلعنة الله على الكافرين*. . . *وإذا قيل
لهم:آمنوا بما أنزل الله . قالوا:نؤمن بما أنزل علينا , ويكفرون بما وراءه
وهو الحق مصدقا لما معهم*. . .*ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم
نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون*. .
. *ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير
من ربكم*. . . *ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق*. . . *وقالوا:لن يدخل الجنة
إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم*. . . *ولن ترضى عنك اليهود ولا
النصارى حتى تتبع ملتهم*. . . الخ الخ .

وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم
في كل أجيالهم من قبلالإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن
يخاطبهم - في عهد النبي [ ص ] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد
موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة .
سماتهم هي هي , ودورهم هو هو , وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار
الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى , إلى خطاب
اليهود في المدينة , إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات
القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها .
وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما
استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر
والتحذير الدائم للأمة المسلمة , تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما
يواجهونها اليوم به من دس وكيد , وحرب منوعة المظاهر , متحدة الحقيقة !

4 - الخط الثاني في السورة:أسس بناء الجماعة المسلمة وإعدادها للخلافة وهو من بداية الجزء الثاني

وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف , وهذا التنبيه , وهذا التحذير , تضمنت
كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول
بني إسرائيل عن حملها قديما , ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . .

تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول
العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد
ذكرهم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار
التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها .
في وحدة ملحوظة , تمثل الشخصية الخاصة للسورة , مع تعدد الموضوعات التي
تتناولها وتنوعها .

فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى:المتقين . والكافرين . والمنافقين .
وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة
الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا
بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد
التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله:*كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
فأحياكم , ثم يميتكم ثم يحييكم , ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعا , ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات , وهو بكل شيء عليم*.
.

وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة
استخلاف آدم في الأرض: *وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة*. .
وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد
الاستخلاف - وهو عهد الإيمان -:*قلنا:اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني
هدى , فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا
بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون*. .

بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات
منها فيما سبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا
لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى -
عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .

ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله
وكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا
يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام
الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار
الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما
يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين كفارا .
وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى
يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو
الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون
بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية
ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر
إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين .

ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ; وتذكرهم بمواقفهم
المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار
أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل , وجبلة واحدة لا تتغير ولا
تتبدل .

وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم , وهم على هذه
الجبلة الملتوية القصد , المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم
أنهم وحدهم المهتدون , بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم
الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته , ويتقيدون بعهده مع ربه ; وأن وراثة
إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ ص ] والمؤمنين به , بعد ما انحرف اليهود
وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة , والخلافة في الأرض بمنهج الله ; ونهض
بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل
- عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت:*ربنا واجعلنا مسلمين لك
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك , وأرنا مناسكنا , وتب علينا , إنك أنت التواب
الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك , ويعلمهم الكتاب
والحكمة ويزكيهم , إنك أنت العزيز الحكيم*.

وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ ص ] وإلى الجماعة المسلمة
من حوله ; حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة
المستخلفة على دعوة الله في الأرض , وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص ,
وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص .

ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت
المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله
وحده , هذه القبلة التي كان النبي [ ص ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها:
*قد نرى تقلب وجهك في السماء , فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد
الحرام , وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره*. .

ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور
والعبادة , ومنهج السلوك والمعاملة , تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل
الله ليسوا أمواتا بل أحياء . وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال
والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها , إنما هو ابتلاء , ينال الصابرون عليه
صلوات الله ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء
والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات
إلى النور , والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
. . وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين لهم حقيقة
البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام
الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج
والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا
. وأحكام الدين والتجارة

وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى .
وعن حلقات من قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف
إلى بناء الجماعة المسلمة , وإعدادها لحمل أمانة العقيدة , والخلافة في
الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود , وارتباطها
بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .

وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها , فيبين طبيعة التصور
الإيماني , وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم , وبالكتب كلها وبالغيب
وما وراءه , مع السمع والطاعة: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ,
كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله ,
وقالوا:سمعنا وأطعنا , غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها , لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت , ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو
أخطأنا , ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا , ربنا
ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به , واعف عنا واغفر لنا , وارحمنا , أنت مولانا
, فانصرنا على القوم الكافرين . .

ومن ثم يتناسق البدء والختام , وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان .
سورة آل عمران
سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان

التعريف بسورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها .
وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في
النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل
العمل , ومناهج الحركة , وزاد الطريق . .

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا ,
ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية , ذات وجود حقيقي ;
ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ; ووجهت به حياة إنسانية حقيقية
في هذه الأرض ; وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من
الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن , طالما نحن نتلوه أو نسمعه
كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة , لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية
اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان , والتي تواجه هذه الأمة
المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا
حية , ذات كينونة واقعية حية ; ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث
توجيها واقعيا حيا , نشأ عنه وجود , ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة ,
وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة
معينة , في فترة من فترات التاريخ محددة , وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت
تاريخها وتاريخ البشرية كله معها , ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك
أن يوجه الحياة الحاضرة , وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة
في شؤونها الجارية , وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها , وفي معركتها
كذلك في داخل النفس , وفي عالم الضمير , بنفس الحيوية , ونفس الواقعية
التي كانت له هناك يومذاك .

ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة , وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية
الكامنة , ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي
أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا
القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة , وتواجه الأحداث في
المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ; وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ;
وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ; ويتنزل القرآنحينئذ ليواجه هذا كله , ويوجه
خطاها في أرض المعركة الكبيرة:مع نفسها التي بين جنبيها , ومع أعدائها
المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .


أجل . . يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ; ونتمثلها في بشريتها الحقيقية
, وفي حياتها الواقعية , وفي مشكلاتها الإنسانية ; ونتأمل قيادة القرآن
لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ; ونرى
كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف
وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة , وفي صبر
ومجاهدة , تتجلى فيها كل خصائص الإنسان , وكل ضعف الإنسان , وكل طاقات
الإنسان .

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة
الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها , تملك
الاستجابة للقرآن , والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .

إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ;
ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس
مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد , كما أنه ليس تاريخا مضى
وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .

إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله
المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه
المبدع ; كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي
دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها ,
والقمر والأرض , وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء
دورها , وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره
للبشرية , وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في
حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن
خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير , لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ,
مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله , ومهما يكن هو قد تأثر وأثر
في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته
التي لا تبديل فيها ولا تغيير ; ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد
لهذا , بما أنه خطاب الله الأخير ; وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة
متحركة بدون تبديل .

وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا:هذا نجم قديم "رجعي ? "
يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي ! " أو أن هذا "الإنسان" مخلوق قديم
"رجعي" يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض !!!

إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك , فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .

وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد
"غزوة بدر" - في السنة الثانيةمن الهجرة - إلى ما بعد "غزوة أحد" في السنة
الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية
. وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة , وتفاعله معها في شتى
الجوانب .

والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ; وصورة الحياة
التي عاشتها الجماعة المسلمة ; وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت
بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر , وما يدب فيها من الخواطر ,
وما يشتجر فيها من المشاعر , حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث , ويعايش
الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما
تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية , بسماتها
الظاهرة على الوجوه , ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها
يتربصون بها , ويبيتون لها , ويلقون بينها بالفرية والشبهة , ويتحاقدون
عليها , ويجمعون لها , ويلقونها في الميدان , وينهزمون أمامها - في أحد -
ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما
يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . . والقرآن يتنزل ليواجه الكيد
والدس , ويبطل الفرية والشبهة , ويثبت القلوب والأقدام , ويوجه الأرواح
والأفكار , ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة , ويبني التصور ويزيل عنه
الغبش , ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر , ويقود
خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل , قيادة الخبير بالفطرة العليم بما
تكن الصدور . .

ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة
طليقة من قيد الزمان والمكان , وقيد الظروف والملابسات , تواجه النفس
البشرية , وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها ,
وكأنها تتنزل اللحظة لها , وتخاطبها في شأنها الحاضر , وتواجهها في واقعها
الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما
كانت ملحوظة في سياق السورة . . بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير
بالنفوس والأشياء والأمور .

ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان .
وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل
على توالي القرون . . ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع
العصور . .

في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في
موطنها الجديد في مدينة الرسول [ ص ] ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه
من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض "سورة البقرة " .

كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ; وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش .
وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه
رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من
عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ ص ] وأن يكبت
حقده وحسده للرسول الكريم ; وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة , وهو
يقول:"هذا أمر قد توجه" . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !


بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت , فقد كان هناك قبل بدر
من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال
, ومن ذوي المكانة فيهم , مضطرة إلى التظاهر بالإسلام , والانضمام إلى
المجتمع المسلم , بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين
; وتتربص بهم الدوائر ; وتتلمس الثغرات في الصف ; وتترقب الأحداث التي
تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم , ليظهروا كوامن صدورهم , أو
ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !

وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود , الذين كانوا يجدون
في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين , وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة
والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في
مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة ; وسد عليهم الثغرة التي كانوا
ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج , بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا ,
وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .

وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر , وارتفع غليان حقدهم على
الجماعة المسلمة , وانطلقوا بكل ما يمكلون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت
الصف الإسلامي , وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين , ونشر الشبهات والشكوك ,
في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !

وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما
كان بين اليهود والنبي [ ص ] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .


كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر , يحسبون ألف حساب لانتصار
محمد [ ص ] ومعسكر المدينة , وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى
مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن
يصبح القضاء عليه مستحيلا .

وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك !
كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما .
فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ; ولكن فيه كذلك
نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب
الواقعية ما يسوي النتوءات , ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة
لها , وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .

كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع ,
وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ; ولم ينضج في نفوس المسلمين
الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة
معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه
العناصر مندمجة في الصف , مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث
غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .

وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة , وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية
مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك
الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ,
وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت
لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في
الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ ص ]
أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد
الله بن أبي في بني قينقاع , وإغلاظه في هذا للرسول [ ص ] ] .

ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر
بأيسر الجهد والبذل . فقدخرج ذلك العدد القليل من المسلمين , غير مزودين
بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم
وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .

وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا
من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة
الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة , لتأخذ بعد
ذلك طريقها .

فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي
الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق !
أليسوا بالمسلمين ? أليس أعداؤهم بالكافرين ? وإذن فهو النصر لا محالة
حيثما التقى المسلمون بالكافرين !

غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ,
فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس , وتكوين الصفوف , وإعداد العدة ,
واتباع المنهج , والتزام الطاعة والنظام , واليقظة لخوالج النفس ولحركات
الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في "غزوة أحد" على
النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا , وتعرض أسبابه من تصرفات
بعض المسلمين ; وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .

وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا
وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه -
وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب
تشج جبهته وتكسر سنة , ويسقط في الحفرة , ويغوص حلق المغفر في وجنته [ ص ]
الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !

ويسبق استعراض "غزوة أحد" وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله
توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ; ولتقرير حقيقة
التوحيد جلية ناصعة , والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب , سواء
منها ما هو ناشىء من انحرافاتهم هم في معتقداتهم , وما يتعمدون إلقاءه في
الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة
العقيدة .

وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران
اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة . ونحن نستبعد أن تكون
السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات . فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت
في الفترة الأولى من الهجرة , حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة . وكان
لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها .

وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح ; فإنه واضح من
الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى
عليه السلام , وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام . وتصحح
لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه . وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي
تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها .

ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من
دسائس أهل الكتاب . وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل
هذا الخطر إلا اليهود .

وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من
جوانب الصراع بينالعقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها . .
وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين
الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها , ويتحفزون
من حولها , ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل . وفي أولها زعزعة
العقيدة ! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين
الأمة الم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://cougar.hooxs.com
 
افتراضي في ظـلال القـُرآن...سَــيّد قطـْب.
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
Cougar :: اسلاميات-
انتقل الى: