سلسلة
معنى شهادة أن محمدا رسول الله
مستفاد في " معظمه "من
( مجلة البحوث الإسلامية )
_ بتصرف وإضافات _
(1)
مقدمة لابد منها:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمَحْمُودِ بِكُلِّ لِسَانٍ, اَلْمَعْبُودِ فِي
كُلِّ زَمَانٍ, اَلَّذِي لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ, وَلَا
يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ, جَلَّ عَنْ اَلْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ,
وَتَنَزَّهَ عَنْ اَلصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ, وَنَفَذَ حُكْمُهُ فِي
جَمِيعِ اَلْعِبَادِ, لَا تُمَثِّلُهُ اَلْعُقُولُ بِالتَّفْكِيرِ, وَلَا
تَتَوَهَّمُهُ اَلْقُلُوبُ بِالتَّصْوِيرِ, (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير - صلى الله عليه وعلى اله
وأصحابه الغُر المغاوير ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً ...
ثم أم بعد ...
لما كانت كلمة الشهادة علما على النطق بالشهادتين معا ، وكانتا متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى ،
كان من الواجب على من أتى بكل منهما أن يعرف ما تدل عليه الكلمة ، ويعتقد ذلك المعنى ، ويطبقه في سيرته ونهجه ،
فلما علم كل مسلم أن ليس المراد من لا إله إلا الله مجرد التلفظ بها ،
فكذلك يقال في قرينتها ،
بل لا بد من التصديق بها والالتزام بمعناها ومقتضاها ،
وهو الاعتقاد الجازم بأنه - صلى الله عليه وسلم –
مرسل من ربه عز وجل ،
قد حمله الله هذه الشريعة كرسالة ،
وكلفه بتبليغها إلى الأمة ،
وفرض على جميع الأمة تقبل رسالته والسير على نهجه ،
فصل في معنى الشهادة لغة
ومعنى الشهادة بادئ ذي بدءٍ
قال الجوهري صاحب الصحاح في اللغة:
الشَهادة: خبَرٌ قاطع...
والمشاهدة: المعاينة.
وشَهِدَهُ شُهوداً، أي حَضَرَه، فهو شاهدٌ. وقومٌ شُهودٌ، أي حُضورٌ...
وشَهِد له بكذا شَهادةً، أي أدَّى ما عنده من الشهادة، فهو شاهِدٌ،...
و جاء في مقاييس اللغة لابن فارِس :
(شهد) الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على
حضور
وعلم
وإعلام،
لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأصولَ
التي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام. يقال شَهد يشهد شهادةً.أهـ
والخلاصة من كلام أهل اللغة:
أن معنى كلمة أشهد :
((أؤدي ما عندي من الخبر القاطع، معلنا ذلك على رؤوس الأشهاد ؛ وأنا حاضر الذهن أني أرى وأعلم علم اليقين المُعَايَن
(أن محمدا رسول الله)
وهذه وحدها تحتاج إلى مزيد بحث،
والبحث في ذلك يحتاج إلى معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق لأداء هذه الشهادة والانتفاع بها .
الأمر الأول :
أهلية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الرسالة .
وهذا ما نتناوله في الحلقة القادمة
إن كان في العمر بقية
إن شاء رب البرية
معنى شهادة
(أن محمدا رسول الله)
الأمر الثاني :
عصمته من الخطايا
اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب ،
لمنافاتها للاجتباء والاصطفاء ،
ولأن الله حملهم رسالته إلى البشر ،
فلا بد أن يكونوا قدوة لأممهم ،
وكلفهم أن يحذروا الناس من مفارقة الكفر والذنوب ،
والفسوق والمعاصي ،
فلو وقع منهم ظاهرا شيء من هذه الخطايا
لتسلط أعداؤهم بذلك على القدح فيهم ،
والطعن في شريعتهم ،
وذلك ينافي حكمة الله تعالى ،
فكان من رحمته أن حفظهم من فعل شيء من هذه المخالفات ،
وكلفهم بالنهي عنها ، وبيان سوء مغبتها ،
كما جعلهم قدوة وأسوة
في الزهد والتقلل من شهوات الدنيا
التي تشغل عن الدار الآخرة ،
أرجو من الأخوة و الأخوات التنبه لهذه الكلمات جيدا
(بالله عليكم)
فأما صغائر الذنوب فقد تقع من أحدهم على وجه الاجتهاد،
ولكن لا يقرون عليها، فلا تكون قادحة في العدالة،
ولا منافية للنبوة،
وإنما هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحدهم إلى علم الغيب،
ولا يصلح أن يمنح شيء من صفات الربوبية .
وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعضا مما وقع من ذلك،
كقوله تعالى :
سورة الأنعام الآية 52
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)
وقوله سورة الإسراء الآية 73
(كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا )
وفي
سورة الإسراء الآية 74
(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)
ونحو تلك الوقائع إلى فعلها اجتهادا
لما يؤمله من مصلحة ظاهره علم الله تعالى أنها لا تتحقق ،
فأما المعاصي والذنوب
فإن الله تعالى حماه من فعلها أو إقرارها
لمنافاة ذلك لصفات الرسالة والاختيار ،
ولمخالفة ما ورد عنه من التحذير عن الكفر والفسوق والعصيان،
فأما تبليغ ما أوصي إليه من الشرع
فقد ذكر العلماء المحققون اتفاق الأمة على عصمته
بل وعصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى من الوحي والتشريع
بل إن الله جل ذكره قد عصمه قبل النبوة عن الشرك والخنا ونحو ذلك
. فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -
قال : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به . . . وما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته
ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا انظر كتاب الشفاء 1 / 100 . وغيره ،
وقال ابن إسحاق في السيرة :
فشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعائبها ،
لما يريد به من كرامته ورسالته وهو على دين قومه ،
حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة ،
وأحسنهم خلقا ،
وأكرمهم مخالطة ،
وأحسنهم جوالا ،
وأعظمهم خلقا ،
وأصدقهم أمانة
وأبعدهم من الفحش والأخلاق
التي تدنس الرجال تنزها وتكرما،
حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين ،
لما جمع الله به في صغره وأمر جاهليته .
من السيرة مع الروض الأنف 2 / 219 .
هذا ما تيسر مختصرا من فضل الله
وللحديث بقية إن شاء الله
مع
الأمر الثالث : عموم رسالته .
----------------------------
الأمر الثالث :
عموم رسالته .
قال السادة العلماء:
اختص محمد - صلى الله عليه وسلم - دون الأنبياء بخصائص كثيرة
ذكر بعضها في حديث جابر المتفق عليه بقوله : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ،
نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم
ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت
إلى الناس كافة )
صحيح البخاري التيمم (328),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن
النسائي الغسل والتيمم (432),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة
(1389).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (بعثت إلى الأسود والأحمر )
رواه مسلم هو في صحيحه مع شرح النووي 5 / 3 .
وعلى هذا فإن على جميع البشر أن يتبعوه ويطيعوه ، فإنهم جميعا من أمته أمة الدعوة ،
وقد قال الله تعالى:
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا أي للناس كافة )
سورة سبأ الآية 28
وقال تعالى :
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)
سورة الأعراف الآية 158
وقد وردت الخطابات في القرآن لعموم الناس
كقوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ )
سورة البقرة الآية 21
وقال تعالى :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ )
سورة النساء الآية 170
وقال تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)
سورة النساء الآية 174
فالإشارة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من ربه ،
فهذه النصوص تبين
أن جميع البشر مكلفون باتباع رسالته ، وملزمون بطاعته ،
وقد اشتهر أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم –
مبعوث إلى الجن كما بعث إلى الإنس ،
واستدل لذلك بقوله تعالى :
( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ )
سورة الأحقاف الآية 29
إلى قوله تعالى :
(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ)
الآيات سورة الأحقاف الآية 31
وكذا قوله تعالى :
( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا سورة الجن الآية 2 يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ )
سورة الجن الآية 1
وقد زعم اليهود والنصارى
لعنهم الله
أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم –
خاصة بالعرب ،
وذلك بعد أن اطمأنوا إلى صحة رسالته ،
وما تأيد به من المعجزات ،
وما حصل له من الأتباع ،
فلم يجدوا بدا من التصديق بأنه مرسل من ربه ،
ولكن حملهم الكبر
وحب المناصب
والمكاسب على ترك اتباعه ،
وقد اعترفوا بأن ما أنزل إليه فهو وحي من الله تعالى لصدقه وصحة رسالته ،
ومع ذلك لم يتقبلوا ما فيه من الأوامر الموجهة إليهم
كقوله تعالى :
( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ سورة البقرة الآية 42 وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
سورة البقرة الآية 41
ونحو ذلك من الآيات .
هذا ما تيسر مختصرا من فضل الله
وللحديث بقية إن شاء الله
مع
الأمر الرابع : تبليغه الرسالة :
[center]
----------------------------
[center]
[center]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قلت:
وقد زعم اليهود والنصارى
لعنهم الله
أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم –
خاصة بالعرب ،
وذلك بعد أن اطمأنوا إلى صحة رسالته ،
وما تأيد به من المعجزات ،
وما حصل له من الأتباع ،
فلم يجدوا بدا من التصديق بأنه مرسل من ربه ،
ولكن حملهم الكبر
وحب المناصب
والمكاسب على ترك اتباعه ،
وقد اعترفوا بأن ما أنزل إليه فهو وحي من الله تعالى لصدقه وصحة رسالته ،
ومع ذلك لم يتقبلوا ما فيه من الأوامر الموجهة إليهم
كقوله تعالى :
( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ سورة البقرة الآية 42 وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
سورة البقرة الآية 41
----------------------------
الأمر الرابع :
تبليغه الرسالة :
قال الله تعالى :
في سورة المائدة الآية 67
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ))
وهذا تكليف من ربه تعالى ، فلا بد من حصوله مع أن هذا هو وظيفة الرسل عليهم
الصلاة والسلام ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من جملتهم ،
وقد قال تعالى :
في سورة الشورى / الآية 48
((إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ))
وقال :
في سورة النور / الآية 54
((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ))
وقد شهد له صحابته - رضي الله عنهم -
بهذا البلاغ والبيان ،
فيقول أبو ذر - رضي الله عنه - :
" توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما "
ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أول الحموية وهو في مسند أحمد 5 / 263 وغيره .
وروى أحمد وابن ماجه عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "
وفي صحيح مسلم وغيره
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال :" إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير
ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه له"م
صحيح مسلم الإمارة (1844),سنن النسائي البيعة (4191),سنن ابن ماجه الفتن (3956),مسند أحمد بن حنبل (2/191).
وقد اشتهر أنه - صلى الله عليه وسلم -
بدأ بدعوة أهل بلده وقومه ،
ثم بدعوة العرب في أنحاء الجزيرة ،
ثم بمن وراءهم ،
فكان يرسل الرسل إلى القبائل في البوادي والقرى للدعوة إلى الله وقبول هذه الرسالة ،
ثم بعث الدعاة إلى اليمن والبحرين وغيرهما ،
ثم بعث كتبا تتضمن الدعوة إلى هذه الشريعة إلى ملوك الفرس والروم وغيرهم ،
فما توفي حتى انتشرت دعوته ،
واشتهر أمره عند القريب والبعيد
قال الله تعالى:
(( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ))
سورة النحل / الآية 36
وهكذا قام صحابته من بعده بالدعوة إلى دينه ،
وقتال من أبى وامتنع من قبولها ،
حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية ،
ويلتزم الذل والصغار ،
حتى بلغت هذه الدعوة أقطار الأرض في أقصر مدة ،
كما ذكر في كتب التاريخ ،
ومع ذلك فإن من كان نائيا في طرف البلاد وقدر أنه لم يسمع بهذه الشريعة أصلا
فإن له حكم أهل الفترات ،
وهو مع ذلك مكلف بأن يبحث وينقب عن الدين الذي خلق له وما يدين به الناس حوله .
هذا ما تيسر مختصرا من فضل الله
وللحديث بقية إن شاء الله
مع
الأمر الخامس : ختم النبوة :
----------------------------
أقول بعد حمد الله والصلاة و السلام على رسوله ومن والاه :
تحدثنا في الحلقات السابقة عن أربعة أمور في معنى شهادة أن محمدا رسول الله
أذكر نفسي وإياكم بها مختصرة فإن كثرة الكلام تُنسي بعضه بعضا ،
فقلت في المقدمة:
... فلما علم كل مسلم أن ليس المراد من لا إله إلا الله مجرد التلفظ بها ،
فكذلك يُقال في قرينتها ، بل لا بد من التصديق بها والالتزام بمعناها
ومقتضاها ، وهو الاعتقاد الجازم بأنه - صلى الله عليه وسلم – مرسل من ربه
عز وجل ، قد حمله الله هذه الشريعة كرسالة ، وكلفه بتبليغها إلى الأمة ،
وفرض على جميع الأمة تقبل رسالته والسير على نهجه ،
وقلت أن مقتضى هذه الشهادة توجب على المسلم الإيمان بعدة أمور منها:
الأمر الأول : أهلية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الرسالة .
فهو خاتم الرسل وأفضلهم ، وقد خصه الله بما لم يحصل لغيره ممن قبله ، فإنه
بلا شك على جانب كبير من هذا الاصطفاء والاختيار الذي أصبح به مرسلا إلى
عموم الخلق من الجن والإنس ، مبرءا عن النقائص ومساوئ الأخلاق التي تزيل
الحشمة ، وتسقط المروءة ، وتلحق بفاعلها الإزراء والخسة ،
الأمر الثاني : عصمته من الخطايا
اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب ، لمنافاتها للاجتباء والاصطفاء ، فلو وقع منهم ظاهرا شيء من هذه الخطايا
لتسلط أعداؤهم بذلك على القدح فيهم ، والطعن في شريعتهم ،
فأما صغائر الذنوب فقد تقع من أحدهم على وجه الاجتهاد،
ولكن لا يقرون عليها، فلا تكون قادحة في العدالة، ولا منافية للنبوة، وإنما
هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحدهم إلى علم الغيب، ولا يصلح أن يمنح شيء
من صفات الربوبية .
الأمر الثالث : عموم رسالته .
اختص محمد - صلى الله عليه وسلم - دون الأنبياء بخصائص كثيرة ، وعلى هذا
فإن على جميع البشر أن يتبعوه ويطيعوه ، فإنهم جميعا من أمته (أمة الدعوة) ،
وقد وردت الخطابات في القرآن لعموم الناس ، وهذه النصوص تبين أن جميع
البشر مكلفون باتباع رسالته ، وملزمون بطاعته ،
وقد اشتهر أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم – مبعوث إلى الجن كما بعث إلى الإنس ،
الأمر الرابع : تبليغه الرسالة
وقلنا ان هذا محض تكليف من الله فلا بد من حصوله، مع أن هذا هو وظيفة الرسل
عليهم الصلاة والسلام ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من جملتهم ، وقد شهد
له صحابته - رضي الله عنهم - بهذا البلاغ والبيان وقد اشتهر أنه - صلى
الله عليه وسلم - بدأ بدعوة أهل بلده وقومه ، ثم بدعوة العرب في أنحاء
الجزيرة ، ثم بمن وراءهم ، فكان يرسل الرسل إلى القبائل في البوادي والقرى
للدعوة إلى الله وقبول هذه الرسالة ، ثم بعث الدعاة إلى اليمن والبحرين
وغيرهما ، ثم بعث كتبا تتضمن الدعوة إلى هذه الشريعة إلى ملوك الفرس والروم
وغيرهم ، فما توفي حتى انتشرت دعوته ، واشتهر أمره عند القريب والبعيد.
واليوم بأمر الله وتوفيقه نتحدث عن:
الأمر الخامس :
ختم النبوة :
لما كانت هذه الشريعة لجميع الخلق ، وقد كلف بها جميع العباد في أقطار البلاد ،
فإنما ذلك لكونها خاتمة الشرائع ، وآخر الرسالات المنزلة من السماء ،
فيجب علينا الإيمان بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم –
خاتم الأنبياء وآخر الرسل ،
قال الله تعالى في سورة الأحزاب الآية 40
( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ )
وقد قُرئ بفتح التاء وكسرها ، وأصل الخاتم ما يختم به ما قبله ،
ومنه ما تختم به الرسائل حتى لا يضاف إليها شيء ليس منها ،
والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم –
آخر الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى الخلق ، فيلزم من كونه خاتم الأنبياء أن يكون آخر الرسل ،
وقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه –
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل
رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل
الناس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة قال : فأنا
اللبنة وأنا خاتم النبيين)
وروى مسلم أيضا عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه –
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
( إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ،
وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي)
صحيح البخاري المناقب (3339),صحيح مسلم الفضائل (2354),سنن الترمذي الأدب
(2840),مسند أحمد بن حنبل (4/80),موطأ مالك الجامع (1891),سنن الدارمي
الرقاق (2775).
وفي سنن أبي داود وغيره في حديث ثوبان الطويل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)
سنن الترمذي الفتن (2219),سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252),سنن ابن ماجه الفتن (3952),مسند أحمد بن حنبل (5/278).
فيجب الإيمان بأنه - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء
وأن من ادعى النبوة بعده فهو كاذب ،
وأن عيسى بن مريم - عليه السلام - حين ينزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كفرد من أفراد هذه الأمة ، وإن كان ينزل
عليه الوحي ، لكنه لا يخرج عن هذا الشرع الشريف ،
وعلى هذا فكل من زعم النبوة ، أو ادعى الرسالة في هذه الأمة فهو كذاب أفاك
ضال مضل ، ولو أتى بمخرفة أو شعوذة ، ولو سحر أعين الناس بأنواع من السحر والبهرج الذي يروج على الرعاع والجهلة من العوام ،
كما جرى على يدي الأسود العنسي ومسلمة الكذاب ، من الأحوال الشيطانية ، والترهات الباطلة التي يعلم كذبها كل ذي عقل سليم ،
وكذلك غيرهما ممن ادعى النبوة وحصل له أتباع وشوكة ، وفتن به بعض الناس ،
ومن آخر هم غلام أحمد القاديانى الذي انتشر شره وفتن بشبهته طوائف وأمم في
الهند والسند ، وكثير من البلاد ،
مرورا بكفرةِ البابية والبهائية وغير ذلك همٌّ كثير ،وهكذا كل مدع للنبوة
إلى يوم القيمة ، وآخرهم الدجال الكذاب الذي وردت السنة بأمره وبيان فتنته
والتحذير من شره ،
وقد قال تعالى : في سورة الشعراء الآية 221/ 222
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ )
فهذا يدل على أن أولئك الكذابين تنزل عليهم الشياطين ، وتخيل إليهم إنما
يأتيهم وحي من الله ، ولكن سنة الله في خلقه أن يجعل على الحق نورا ، وأن
الخرافات والأكاذيب لا بد وأن ينكشف أمرها ، وبتجلي لأولى الألباب .
هذا ما تيسر مختصرا من فضل الله
وللحديث بقية إن شاء الله
مع
الأمر السادس : واجب الأمة نحوه :
[table class="tborder" id="post2303742" border="0" cellpadding="4" cellspacing="1" width="100%" align="center"][tr][td class="alt1" id="td_post_2303742"]
واجب الأمة نحوه :
وبعد أن عرفنا صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وصحة رسالته ،
ووجوب تصديقه ، وذلك هو مدلول شهادة أن محمدا رسول الله ، التي تستلزم
تصديقه ثم التعبد باتباعه ، والإيمان بما يترتب على ذلك من الثواب ، وعلى
تركه من العقاب ، فإن من واجبنا أن نقوم بتحقيق ذلك وتطبيقه في واقع الحياة
، وذلك يتمثل في أوامر وردت أدلتها في الكتاب والسنة .
1- فمنها الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر الله بذلك كما أمر
بالإيمان بالله والملائكة والكتب ، ورتب الله تعالى على ذلك جزيل الثواب ،
وعلى تركه أليم العقاب ،
قال الله تعالى : في سورة النساء الآية 136 (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى
رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا))
وقال تعالى : في سورة الحديد الآية 28 (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ))
وقال سبحانه : في سورة التغابن الآية 8 (( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ))
وقال تعالى : في سورة الأعراف الآية 158 (( فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ ))
وقال سبحانه وتعالى : في سورة الفتح الآية 13 ((وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ))
وغيرها من الآيات في هذا المعنى ،
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ،
ويؤمنوا بي وبما جئت به ) صحيح البخاري الإيمان (25),صحيح مسلم الإيمان
(22).
وفسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث جبريل المشهور بقوله : (أن
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ) في سنن
الترمذي الإيمان (2610),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990),سنن أبو داود
السنة (4695),سنن ابن ماجه المقدمة (63),مسند أحمد بن حنبل (1/28).
ولا شك أن الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - يستلزم تصديقه فيما جاء به ،
واعتقاد صحة رسالته ، ذلك أن أصل الإيمان يقين القلب واطمئنانه بصحة الشيء ،
ثم التكلم به عن معرفة وإيمان ، ثم تطبيق ذلك بالعمل بمقتضاه فباجتماع ذلك
يتم الإيمان ، ويعتبر وسيلة للنجاة .
وبتخلف تصديق القلب يبطل أثر الشهادة ولا تنفع قائلها .
ولهذا كذب الله المنافقين بقوله : في سورة المنافقون الآية 1 (( إِذَا
جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))
2 - ومن ذلك الأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من معصيته ،
ولا شك أن طاعته من علامات الإيمان به ، فإن التصديق الجازم بصدقه لتستلزم
طاعته فيما بلغه عن الله تعالى ، فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عنادا أو
تهاونا لم يكن صادقا في شهادته له بالرسالة ،
ولقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة من القرآن ،
قال الله تعالى : في سورة النساء الآية 59 (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ))
وقال تعالى : في سورة المائدة الآية 92(( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ))
وقال سبحانه وتعالى : في سورة النور الآية 54 (( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ))
ومثل معنى ذلك قوله تعالى : في سورة الحشر الآية 7 (( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ))
بل قد رتب على طاعته - صلى الله عليه وسلم - جزيل الثواب فقال تعالى : سورة
النور الآية 56 وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ))
وقال تعالى : في سورة الأحزاب الآية 71 (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))
وهكذا توعد على معصيته بالعقوبة الشديدة ،
قال الله تعالى : في سورة النساء الآية 14و13 (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) ((وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ))
وحكى عن أهل النار قولهم : في سورة الأحزاب الآية 66 (( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ))
وورد في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله)
ومعنى هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يأمر بما أوحي إليه ، فطاعته في ذلك طاعة لربه ،
قال الله تعالى : في سورة النساء الآية 80 (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظًا ))
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول
الله وكيف يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى) صحيح
البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6851),صحيح مسلم الإمارة (1835),مسند
أحمد بن حنبل (2/361).
ولا شك أن طاعته هي فعل ما أمر به ، وتجنب ما نهى عنه ، والتسليم مع ذلك
لما جاء به ، والرضى بحكمه وترك الاعتراض على شرعه أو التعقب والانتقاد
لحكمه .
3 - ومن ذلك أمر الأمة باتباعه والاقتداء بسنته ،
وقد رتب الله على ذلك الاهتداء والمغفرة ، وجعله علامة على صدق المحبة لله تعالى ،
قال عز وجل : في سورة الأعراف الآية 158 (( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ))
ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحبابه أنزل آية المحنة ، وهي
قوله تعالى : في سورة آل عمران الآية 31و32 (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) (( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
))
وقال تعالى : في سورة الأحزاب الآية 21 (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ))
ولا شك أن مما يجب على العباد محبة ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم ، ولكن
حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع هذه النبي الكريم - صلى الله عليه
وسلم - فقد جعل الله من ثواب اتباعه محبة الله تعالى لمن اتبعه ومغفرته له
،
ولكن علامة هذا الاتباع تقليده - صلى الله عليه وسلم - والسير على نهجه ،
والاقتداء به في سيرته وأعماله وقرباته ، وتجنب كل ما نهى عنه ، والحذر من
مخالفته التي نهايتها الخروج عن التأسي به ،
كما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( فمن رغب عن سنتي
فليس مني) : صحيح البخاري النكاح (4776),صحيح مسلم النكاح (1401),سنن
النسائي النكاح (3217),مسند أحمد بن حنبل (3/285).
4 - ومن ذلك محبته الصادقة بالقلب والقالب ، بل تقديمها على ما سواها
قال الله تعالى : في سورة التوبة الآية 24 (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ))
فانظر كيف وبخهم على تقديم شيء من هذه الأصناف الثمانية التي تميل إليها
النفس عادة وتؤثر الحياة لأجلها على محبة الله ومحبة رسوله ، وتوعدهم بقوله
(فتربصوا) . . الخ
أي انتظروا أمر الله وهو أثر سخطه وغضبه ، بما ينزله من العقوبة ،
وفي ذلك أبلغ دليل على وجوب محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم –
وقد أكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس :
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، أن يكون الله رسوله أحب إليه مما
سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد
إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) صحيح البخاري الإيمان
(16),صحيح مسلم الإيمان (43),سنن الترمذي الإيمان (2624),سنن النسائي
الإيمان وشرائعه (4988),سنن ابن ماجه الفتن (4033),مسند أحمد بن حنبل
(3/114).
وفي الصحيحين أيضا عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس
أجمعين)
ولما قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : (( والله لأنت أحب إلي من كل
شيء إلا من نفسي قال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال - رضي
الله عنه - والله لأنت أحب إلى من كل شيء حتى من نفسي . فقال : الآن يا عمر
) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6257),مسند أحمد بن حنبل (5/293).
وقد ورد في الحديث أن من ثواب محبته - صلى الله عليه وسلم - الاجتماع معه في الآخرة ، وذلك لما في صحيح البخاري المناقب (3485),
(( سأله رجل عن الساعة فقال : ما أعددت لها ؟ قال ما أعددت لها إلا حب الله
ورسوله . فقال أنت مع من أحببت)) صحيح مسلم البر والصلة والآداب
(2639),سنن الترمذي الزهد (2385),سنن أبو داود الأدب (5127),مسند أحمد بن
حنبل (3/168).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
(المرء مع من أحب) صحيح البخاري الأدب (5816),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2641),مسند أحمد بن حنبل (4/405).
وكفي بذلك ثوابا وأجرا لهذه المحبة ، ولكن المحبة الصادقة تستلزم الاقتداء
به والتأدب بآدابه ، وتقديم سنته على رضى كل أحد ، وتستلزم أيضا محبة من
يحبه ويواليه ، وبغض من يبغضه ويعاديه ، ولو كان أقرب قريب ، فمن استكمل
ذلك فقد صدق في هذه المحبة ، ومن خالفه أو نقص شيئا من ذلك نقصت محبته بقدر
ذلك .
5 - ومن ذلك احترامه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيه وتعزيره
كما ذكر في قوله تعالى : في سورة الفتح الآية 9 (( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ))
وقوله تعالى : في سورة الحجرات الآية 1و2و3 (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) (( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ))
فنهاهم عن التقدم بين يديه برأي أو نظر يخالف ما جاء به ، ونهاهم عن رفع
الصوت بحضرته ، أو الجهر له بالقول بدون مبرر ، وتوعدهم على ذلك بحبوط
العمل ،
وقال تعالى : في سورة النور الآية 63 (( لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ))
أي لا تنادوه باسمه العلم كما يدعو أحدكم الآخر ، ولكن ادعوه بما تميز به بأن تقولوا : يا نبي الله أو يا رسول الله .
وما ذاك إلا لما خصه الله به من الفضل والرفعة ، وفي تعزيره وتوقيره
واحترامه تعظيم لسنته ، ورفع لقدرها في نفوس أتباعه ، مما يحصل به اتباعه
وامتثال أمره وتجنب نهيه .
قال تعالى : في سورة النساء الآية 59 (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))
وقال تعالى : في سورة النور الآية 63 (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
وقال تعالى : في سورة النساء الآية 65 (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))
وأجمعت الأمة أن الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته ، ففي هذه الآيات أعظم
برهان على تحريم مخالفته ، ومنع الاستبدال بسنته ، فانظر كيف حذر الذين
يخالفون عن أمره بالفتنة وهي الشرك أو الزيغ ، وبالعذاب الأليم ، وكيف أقسم
على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم ، ويسلموا لقضائه ،
ولا يبقى في نفوسهم أي حرج أو تعنت مما قضي به بينهم ، وكفى ذلك وعيدا
وتهديدا لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها تهاونا واستخفافا ، واعتاض عنها
بالعادات والآراء والقوانين الوضعية ونحوها .
هذا ما تيسر وللحديث بقية إن شاء الله
مع
الاقتصاد والتوسط في حقه - صلى الله عليه وسلم -
[center]
----------------------------
الأمر السابع :
الاقتصاد والتوسط في حقه - صلى الله عليه وسلم - :
جرت سنة الله في خلقه بوقوع الإفراط أو التفريط ، وأن كل أمة يقع منهم في
الغالب غلو أو تقصير ، لذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته
المتبعين له من الغلو في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق الله تعالى ،
ويتبين ذلك بما يأتي .
1 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج عن كونه بشرا ، قال الله تعالى في
سورة الكهف الآية 110 قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط ،
وقال تعالى : في سورة الإسراء الآية 93 (( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا )) وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر
الأرض أو يسقط السماء عليهم . . الخ ،
فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده ، فأما هو فإنما تميز بالرسالة التي
حمله الله إياها ، وقد حكى الله عن الأمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل
بأنهم بمثر ،
كما في قوله تعالى عن قوم هود أو صالح : في سورة المؤمنون الآية 33 /34 ((
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ))(( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا
مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ))
وحكى عن المكذبين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا : كما في سورة
الفرقان (( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ )) أي يسعى للتكسب وطلب الرزق ،
فأجاب عن ذلك بقوله : (( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
)) أي ليسوا ملائكة فإن البشر لا يتمكنون عادة من رؤية الملائكة بل لو أرسل
الله ملكا لما تمكنوا من مشاهدته حتى يتمثل في صورة إنسان فيقع الاشتباه ،
قال تعالى : في سورة الأنعام الآية 9 (( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا
لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ))
ولما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - السهو في الصلاة ولم يذكروه ظنا منهم
أن الصلاة قد قصرت فقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت
فذكروني متفق عليه هو في صحيح البخاري برقم 401 ومسلم 5 / 61 عن ابن مسعود .
ومتى كان الرسل بشرا فلا يناسب إعطاءهم شيئا من حق الله من صفة أو عمل .
2 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب ، وإنما يخبر بما أخبره الله به وأوحاه إليه ،
قال الله تعالى : في سورة الأنعام الآية 50 (( قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ
عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ))
وقال تعالى : في سورة الأحقاف الآية 9 (( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ))
وقال تعالى : في سورة الأعراف الآية 188 (( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ))
فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وإنما يظهر بعض خلقه على شيء من ذلك كمعجزة وبرهان على صدقه
كما قال تعالى : في سورة الجن الآية /2726 (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا )) (( إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ))
أي أنه تعالى يطلع من ارتضاه وهم رسله على أمور من الغيب مما سبق أو مما يأتي ،
ولا ينافي ذلك قوله تعالى : في سورة النمل الآية 65 (( قُلْ لَا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ))
فإن ما وقع من الإخبار في الأحاديث عن الأمور المستقبلة هو من الوحي الذي
اطلع الله عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة الرسول الملكي ، أو
بما فتح الله عليه وألهمه ،
ومتى كان هذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الرسل ، لم
يصلح أن يصرف لهم شيء من حق الله الذي هو عبادته وحده ، ولا أن يوصفوا بما
اختص به الرب تعالى ،
فقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على الجاريتين اللتين عند الربيع بنت مسعود قولهما : وفينا نبي يعلم ما في غد ،
رواه الترمذي هو في سنن الترمذي مع تحفه الأحوذي 4 / 211 وصححه
. وقالت عائشة - رضي الله عنه - : من حدثك أن محمدا يعلم ما في غد فلا تصدقه
رواه البخاري هو في صحيح البخاري مع الشرح برقم 4855 . وورد في صحيح
البخاري الإيمان (50),صحيح مسلم الإيمان (9),سنن النسائي الإيمان وشرائعه
(4991),سنن ابن ماجه المقدمة (64),مسند أحمد بن حنبل (2/426).
وفي حديث جبريل - عليه السلام - لما سأل عن الساعة قال النبي - صلى الله
عليه وسلم - : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، وسأحدثك عن أماراتها إذا
ولدت الأمة ربها ، وإذا رأيت الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان
،
وفي خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ (( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ ))
متفق عليه هو في صحيح البخاري برقم 50 وصحيح مسلم 1 / 161 .
وهذه الخمس يعني مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى : في سورة الأنعام
الآية 59 (( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
)) فمن ادعى العلم بشيء منها أو نسبه إلى بشر فهو كاذب .
هذا ما تيسر وللحديث بقية إن شاء الله
[center] [size=21] [center]
تابع
الأمر السابع :
الاقتصاد والتوسط في حقه - صلى الله عليه وسلم - :
3 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك الضر ولا النفع لنفسه فضلا عن غيره ، قال الله تعالى : في سورة الأعراف الآية 188 (( قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ))
وقال تعالى : في سورة الجن الآية 21 (( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ))
وما ذاك إلا أن الملك لله وحده ، فهو الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع ، وهو مالك الملك ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، أما الخلق كلهم بما فيهم الأنبياء فإنهم مملوكون ، يعمهم قول الله تعالى : في سورة سبأ الآية 22 (( لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ))
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذه الآية :
نفي الله عما سواه كلما يتعلق به المشركون ، فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله . . الخ
وقد قال تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : في سورة آل عمران الآية 128 (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ )) وذلك حين أن شج النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقعة أحد وكسرت رباعيته ،
فقال : "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم أو كان ذلك لما قنت عليه الصلاة والسلام يدعو على بعض المشركين بمكة ، فأنكر الله عليه ، وأخبره بأن الأمر كله لله وحده ليس لك منه شيء"
رواه البخاري برقم 4069 وغيره عن ابن عمر - رضي الله عنه – وفي صحيح مسلم الجهاد والسير (1791),سنن الترمذي تفسير القرآن (3003),سنن ابن ماجه الفتن (4027),مسند أحمد بن حنبل (3/253).
وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - أنذر عشيرته وأقاربه وقال لهم : أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا حتى قال ذلك لعمه وعمته وابنته"
صحيح البخاري الوصايا (2602),صحيح مسلم الإيمان (204),سنن الترمذي تفسير القرآن (3185),سنن النسائي الوصايا (3644),مسند أحمد بن حنبل (2/361),سنن الدارمي الرقاق (2732).
وفي رواية صحيح: " اشتروا أنفسكم"
البخاري الوصايا (2602),صحيح مسلم الإيمان (206),سنن النسائي الوصايا (3646),مسند أحمد بن حنبل (2/350),سنن الدارمي الرقاق (2732)
أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر ، فإن في ذلك إنقاذ من النار ، دون الاعتماد على النسب والقرابة ،
فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغنى عن أقاربه ويشفع لهم ،
وهذا الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجمع الغفير ، فتراهم يعتمدون على مجرد الانتساب إلى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعدونه شرفا ، ظانين أن النجاة والشفاعة تحصل لهم بدون عمل ، بل إنهم يخالفون سنته ، ويعصون الله ورسوله علنا ،
كما أن هناك آخرون يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته ، ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجرد تلك المحبة الوهمية ، رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه ،
فإذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو عصاه كما قال تعالى : في سورة الجن الآية 22 (( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا))
فكيف بغيره من قريب أو بعيد ، وقد بين عليه الصلاة والسلام لأقاربه أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله ، وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار .
وثبت في الصحيح " أنه - صلى الله عليه وسلم - حاول هداية عمه أبي طالب فلم يقدر على ذلك ، فلما حضرته الوفاة جاءه " فقال له : يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله"
صحيح البخاري المناقب (3671),صحيح مسلم الإيمان (24),سنن النسائي الجنائز (2035),مسند أحمد بن حنبل (5/433).
فلقنه جلساء السوء الحجة الشيطانية ، فكان آخر كلامه : هو "على ملة عبد المطلب".
ونزل في ذلك قوله تعالى : في سورة القصص الآية 56 (( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))
ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذين يغلون في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألونه تفريج الكروب ، وغفران الذنوب ، ويهتفون باسمه عند الشدائد بقولهم : " يا رسول الله " . ونحو ذلك ،
فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق وأقربهم من الله ، وأعظمهم عنده جاها ، ومع ذلك حرص على هداية عمه أبي طالب في حياته وعند وفاته فلم يستطع ذلك ،
لأن الله تعالى كتب عليه الشقاء ، وقد عزم على الاستغفار له .
فنهاه الله عن ذلك بقوله . في سورة التوبة الآية 113 (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ))
ففي ذلك دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لغيره نفعا ولا يدفع عنه ضرا ، ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه ، ولو زعم أن |